بقلم : الاستاذ . محمد تهامي خبير التطوير المؤسسي
لا يُكتب المجد بقرار، ولا تُصنع النهضة على ورق. إنها تبدأ بفكرة… وتنمو بفلسفة… وتُصاغ بمؤسسة. وهذا ما كان في نواكشوط، حين وُلد مركز تكوين العلماء، لا بوصفه مدرسة تقليدية، بل بصفته مشروعًا حضاريًا عابرًا للزمان والمكان، يُعيد للأمة سؤالها الأهم: من يُعيد صياغة العالم كما أراده الوحي؟ ومن يُخرج من الطين رجالًا يشبهون الذهب؟
حين تدخل بوابة المركز، تدرك أن ما أمامك ليس مباني تعليمية فقط، بل منظومة متكاملة من الفكر والمنهج، تُدار بعقلٍ استراتيجيّ لا يُفرّق بين بناء الإنسان وبناء الدولة، ولا يرى في العلم الشرعي حقلًا جامدًا، بل نهرًا حيًا يمتد في كل تفاصيل الحياة.
الهيكل المؤسسي… حين تتناغم المجالس الأربعة
في صميم إدارة المركز، تتجلّى العبقرية المؤسسية، حيث تتوزع المسؤوليات عبر أربعة مجالس متكاملة:
- المجلس الرئاسي: برئاسة العلامة المؤسس الشيخ محمد الحسن الددو، ويضم كوكبة من العلماء المرموقين، يُشرف على البوصلة الفكرية والروحية للمشروع.
- مجلس الإدارة: يُعنى بالحَوْكمة والرؤية العامة، ويضمن اتساق العمليات مع الأهداف الكلية.
- المجلس العلمي: يضع السياسات التعليمية، ويُشرف على المحتوى العلمي، وضبط الجودة المعرفية والشرعية.
- المجلس التنفيذي: يدير العمليات اليومية، ويُشرف على التنفيذ المرحلي للخطط والبرامج.
كل مجلس له صلاحياته الدقيقة، في انسجام لا يُرى إلا في المؤسسات ذات العمق والرشد، ويُدعّم ذلك بوجود هيئة رقابة داخلية وتدقيق مالي محترف، وخطة استراتيجية تمتد على مدى سنوات، تُترجم في خطط تشغيلية دقيقة تُراجع وتُطور باستمرار.
المراحل التعليمية… سلّمٌ نحو العالِم الموسوعي
ينقسم البناء العلمي في المركز إلى أربع مراحل مترابطة:
1. المرحلة الإعدادية: يبدأ فيها الطالب بحفظ المتون، وتثبيت أصول اللغة، وتشكيل الوعي التأسيسي.
2. المرحلة الثانوية: يتعمق الطالب في الفقه وأصوله، ومصطلح الحديث، ومهارات البحث.
3. المرحلة الجامعية: يتناول الطالب العلوم المقارنة، مع الانفتاح على قضايا العصر، ومهارات الاستنباط، وتحليل الواقع.
4. مرحلة الدراسات العليا: يُمنح الطالب أدوات الاجتهاد المركّب، ويُشرف على البحوث، ويُشارك في المجامع العلمية.
في كل مرحلة، تُضبط السياسة التعليمية وفق مناهج دقيقة، تجمع بين التراث والتجديد، وبين العقل والنص، وبين فقه الشريعة وفقه الواقع، ليخرج العالم الموسوعي الذي نحتاجه: قارئًا للتاريخ، صانعًا للغد.
برنامج الطالب المكثف… صناعة اليوم الكامل للعالِم
لا يكتفي المركز بالمقررات والمناهج، بل يبني اليوم الكامل للطالب على منهجية صارمة. فطالب المركز يبدأ يومه قبل الفجر بقيام الليل، ثم يعقبه الحفظ والمراجعة، لينخرط بعدها في برنامج علمي دقيق لا يتخلله سوى وجبات الطعام وقيلولة منظمة، في توازنٍ محسوب بين الراحة والإنتاج. يمتد هذا اليوم المتزن حتى العاشرة ليلاً، في بيئة مغلقة وآمنة، حيث الطالب محفوظٌ في كل شؤونه: من سكنه، إلى غذائه، إلى وقته، إلى أمانه الفكري والنفسي، وكأنه يعيش في محراب علمي متكامل.
البنية التحتية… علمٌ وسكنٌ وعبادةٌ وتنمية
المباني الدراسية موزعة بعناية، مع مختبرات لغوية، وقاعات بحث، ومدرجات للمحاضرات، ومرافق رقمية حديثة. أما السكن الداخلي، فقد رُوعي فيه المستوى العلمي، والخصوصية، والنظافة، والهدوء، ليكون الطالب في بيئة تُشبه حياة العلماء، لا حياة النزلاء.
ويأتي المسجد الجامع في قلب المركز، جامعًا بين العبادة والعلم، وتكاد تشعر فيه أنك في رحاب الحرمين، من تعدد الجنسيات، وكثرة اللغات، واتحاد القلوب.
وتوجد المكتبة المركزية، التي تضم آلاف العناوين من أمهات الكتب إلى أحدث المراجع، كما تجد جناحًا خاصًا بالمخطوطات القديمة، تلك التي تحمل بين سطورها عراقة الماضي وعبقرية الفكر، مُرَتَّبَة بعناية كأنها كنزٌ من ذهب الزمان. هنا، لا تقتصر المهمة على حفظ الورق والأحبار، بل على توثيق تاريخ الفكر وذاكرة الأمة، ليبقى هذا الجناح شاهدًا حيًّا على الجهود المبذولة في نقل العلم وتوارثه عبر الأجيال. وتُعد من أبرز مكتبات العلوم الإسلامية في المنطقة، وإلى جانب ذلك: ملاعب رياضية، ومطبخ نموذجي، ومطعم جماعي، في نظام صحيّ، متزن، يُراعي احتياجات الطلاب من أكثر من عشرين دولة.
البرامج الموازية… حين يتعدى العلم حدود الصفوف
- برنامج تكوين الأئمة والخطباء: يهدف إلى تأهيل الجيل الجديد من القيادات الدينية، بفقه الواقع، والقدرة على التأثير المجتمعي.
- التعليم عن بعد… يمنح طلابًا من خارج موريتانيا فرصة الوصول للمحتوى العلمي للمركز.
- البرامج الموسمية… من مدارس صيفية، وملتقيات شبابية، وحلقات علمية مفتوحة.
هذه البرامج تُعبّر عن فلسفة المركز: أن التعليم لا يتوقف عند الجدران، بل هو حركة مستمرة تنبع من الإنسان وتمتد في الحياة.
المسابقة الوطنية السنوية… عُرس العلم برعاية الدولة
كل عام، تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية، تُنظم المسابقة الوطنية في حفظ المتون، والتي تُعد من أهم الفعاليات العلمية في موريتانيا، وتُعد بمثابة “عتبة المجد” للطلاب الطامحين لحصد المراكز المتقدمة.
ولا تكتفي المسابقة برمزيتها، بل تُعد حجة دامغة على أصالة المركز، إذ يتصدر طلابه دائمًا قوائم الفائزين، ولا تمر دورة إلا وكان الخمسة الأوائل من خريجيه، بل بلغت نسبتهم في بعض السنوات 60% من مجمل المشاركين.
وما هذه النتائج إلا ردّ عملي على الدعاية المغرضة التي حاولت نزع صفة الوطنية عن المركز، بادعاءات أنه “خارجي” أو يُعلِّم أفكارًا دخيلة. فقد ثبت من خلال هذه المسابقة، وبآليات الفقه التقليدي، وبإشراف العلماء المعروفين، والوزارة الرسمية، أن مركز تكوين العلماء ليس فقط امتدادًا للمحظرة الشنقيطية، بل صرحًا أصيلًا يُجدد الوصل بالمتون والنصوص المحفوظة التي قامت عليها هذه البلاد.
العلماء والأساتذة… سبعون شمسًا تُضيء الطريق
يضم المركز نحو سبعين من العلماء والأساتذة من نخبة المدرّسين في العالم الإسلامي، يجمعون بين الأصالة والحداثة، وبين الدرس والتزكية، ويُمثلون نواة مشروع يُراد له أن يُنبت جيلًا من العلماء القادرين على مخاطبة العالم بلغة العصر وصدق الإيمان.
أخيرًا… ليس المركز تحفة معمارية، بل فكرة حية تمشي بين الناس. ليس مجرّد هيئة تعليمية، بل ضمير أمة يُعيد ترميم الوعي، وبناء العالم من جديد. فلئن كانت المؤسسات الكبرى تُقاس بموازين التمويل والانتشار، فإن مركز تكوين العلماء يُقاس بمقدار ما أحيا من المعنى، وما غرس من الأثر، وما أنبت من قادة الفكر. وفي دعاء خالص من قلب لا يُجيد إلا الشكر، نقول: “اللهم بارك في هذا الصرح، واحفظ أهله، وسدّد خطاهم، وبارك في العلامة المؤسس الددو، ووفّق مديره العام د. محمد المختار المامي، وكل من يحمل الشعلة في هذا المكان الذي أعاد للعلم قدسيته، وللعالم رسالته، وللأمة أملها.”
